جحود ليل و عذابات صباح

جن الليل فتبدأ رحلة الصراع تلك بين عقل تسرى الذبذبات النشطة فيه طليقة ، نافرة بلا قيود تلجمها أو ربان يسيطر
 عليها و روح تعبة أرهقتها مسرحية البشر خلال النهار. يتقلب ذلك الجسد يميناً و يساراً يحاول  جذب تلك النفس المنهكة نحو نوم عميق و ما أن توشك تلك المحاولات على النجاح و يبدأ الأديم فى الانفصال عن الشعور ، ينتبه العقل فجأة لتلك المؤامرة و ينير تلك الكشافات الضئيلة الحجم، الهائلة العدد، لتبدأ رحلة العذاب من جديد.
 
نوم، ليس بنوم، و أحلام  هاربة لا تأتى و لا ترتحل، الوقوف بين بين، التعلق بين عالمين فى منطقة لا تمت لثكنة الأحلام بصلة. عذابات  ليلٍ تترك آثارها فى الصباح، مع صفارة الحكم التى تعلن الوصول إلى نفس النقطة السابقة من ذات الدائرة اللعينة.
 
تنفتح نافذتى هذا الجسد المضنى ببطء من أعياه السهر.لم يصل الشعور بعد إليه، مازال تحت أثر الخدار، تطول مدة انتظار وصول الإحساس، و لكن النفس المتعبة ماعاد يقلقها أمر كهذا، بل تتمنى أن يطول الوقت كيف يشاء، لا تريد أن تشعر بدفقات الدماء داخل العروق، لا تريد أن تشعر بتلك الآلام التى تنتعش مع أولى لحظات الصباح.
 
يعود الشعور إلى تلك الأطراف ، فيبدأ الجسد فى التحرك بتباطؤ، حتى يستقر على ظهره. ينظر إلى الحائط المواجه له، تجتاحه التشنجات و الذكريات و الأفكار، ذكريات حب لم تشأ الأقدار له أن يُعلَن ، و ذكريات آلام خذلان و خيانة امتزجت بأفكار الإرهاق من طول الرحلة و المحاولات المضنية. لا أريد أن أنهض الآن، لا أستطيع، ربما أستطيع و لكننى تعبت من مواجهة تلك السخافات اليومية، تلك الأقنعة المستفزة، و رفات الأحلام المهشمة على صخرة أشباه-البشر هؤلاء.
 
 توسوس له نفسه بالاستسلام للرقود فى فراشه المنتفخ بالأشواك. يتأمل تلك الوحدة الموحشة و احتياجه إلى حضن دافئ يحتويه و لكنه تذكر أنه ماعاد صغيراً بل أن هناك صغاراً يبحثون عن حضنه ليختبئوا داخله. و تساءل مستنكراً كيف للحياة أن تحرمه من حقه فى حضن يرتمى فيه و يسكن إليه كلما قست عليه هى و البشر و اغترب بلا غربة فلم يعد يجد من يرى حقيقة قلبه و لم يعد يجد من لا يحتاج إلى شروح و تبرير. كيف له أن يُحرَم من حقه فى سند لا يتلذذ بتحليلات عبقرية و إصدار أحكام جهنمية عليه .
 
 و لكن تشنجاته تضاعفت لتذكره بأنه رغم كل شئ مازال يثبت حضوره فى حضرة تلك الحياة كل يوم، مازال رغم كل تلك الأوجاع، ينهض من جديد، نعم لقد تغيرت نظرته للأشياء و الأشخاص، لقد تغير كثيراً و ربما سيتغير أكثر، نعم، يكاد لا يتذكر كيف كانت نفسه السابقة، يشعر بغربته عنها و غرابتها و يتساءل كيف كانت على تلكم الصورة، فيتذكر الأيام و ما تعرض له و كيف تأثر و أثر فى غيره. كيف ثار عندما ظن أنه لن يفعلها أبداً، و كيف ازداد تشبثه بحلمه  عندما أوشك على الاستسلام و لم يضعف مع ازدياد النوائب، كيف حاول و كيف استمر، كيف فقد شهية الجدال و الخوض فى مهاترات ساذجة، كيف لم يعد يعبأ بأمور و ازداد اهتمامه بأخرى . غاص فى أفكاره و صراعه بين النهوض و الاستسلام حتى ساعده ذلك العصفور الواقف على شرفة غرفته على اتخاذ القرار. لأكن مثل هذا العصفور الذى لا يهجر السعى يوماً و لا يفوته نهار، فقفز من فوق الفراش و قرر أن يستكمل المسير، فبعض الآلام تحمل فى قلبها المعجزات و بعد العثرات تفتح بوابات الأحلام.

Comments

Popular posts from this blog

قبل أن تخدع ذاتك

عن فراشة الريم

المُرتَحِلون والساكنون خوفاً